

يقول أنه أقام ليلته تلك ذاكرا
ً حامدا ً ومسبحا ً ثم دعا الله أن يبين له شخصية من سحره بعلامة ما تظهر في أحد أبناء
الساحر الشرير. وفي الصباح وجد ابنة جاره المرحوم تشكو من رمد ٍ أصاب عينيها. ولم
يتسرع المتهم في اتخاذ قراره الخطير بعد تلك العلامة البينة فأقام ليلة أخرى ودعا
الله أن تظهر علامة أخرى في نسل الشرير فإذا بابن جاره المرحوم أيضا ً ذي الستة
أعوام يصبح مكسور الرجل بعد أن سقط من فوق
الدولاب. ثم أنتظر المتهم لليلة ثالثة ودعا الله بعد صلاة وتسبيح وتهليل وتحميد أن تظهر العلامة هذه المرة في
زوجة الشرير، فكان أن اصيبت زوجة ذات الجار المرحوم بأنفلونزا حادة. وهكذا لم يشك
موكلي للحظة بعد هذه العلامات الثلاث في جرم المرحوم فأغار عليه في ذلك الصباح الباكر
بتلك السكين العظيمة وأزهق روحه في الحال.

ولكن ممثل المدعي العام ذا العقلية التجريمية والذي يترافع ضدي كممثل للإتهام أصر على مثول
البروفيسور (محمد كمال الدين) كشاهد أمام المحكمة بغرض مناقشته في تقريره المكتوب وتفنيده.
أحسست في تلك الجلسة بالإشفاق على البروفيسور العجوز فالأستاذ (جاد الله) ممثل المدعي العام أخذ يطوح به يمينا ً ويسارا ً متلاعبا ً بالعبارات والألفاظ إلى أن حصر الرجل رده في القول بأن ما تصرف المتهم على أساسه وارتكب تلك الجريمة بناء ً عليه ما هي إلا أوهام من بنات ذهنه المضطرب ولا علاقة لها بالواقع وهي عين الجنون. فسأله الأستاذ (جاد الله) بصوت ٍ ناعم ٍ قائلا ً:
أحسست في تلك الجلسة بالإشفاق على البروفيسور العجوز فالأستاذ (جاد الله) ممثل المدعي العام أخذ يطوح به يمينا ً ويسارا ً متلاعبا ً بالعبارات والألفاظ إلى أن حصر الرجل رده في القول بأن ما تصرف المتهم على أساسه وارتكب تلك الجريمة بناء ً عليه ما هي إلا أوهام من بنات ذهنه المضطرب ولا علاقة لها بالواقع وهي عين الجنون. فسأله الأستاذ (جاد الله) بصوت ٍ ناعم ٍ قائلا ً:
- هل تؤمن بالسحر والعين والنفاثات في
العقد وشر حاسد إذا حسد يا بروفيسور.
كنت أعلم أن هذا السؤال وما سيتولد عنه من
أسئلة ٍ تالية سيكون قاصمة الظهر لقضية دفاعي لذا صرخت وأنا أضرب المنصة بقبضتي قائلا ً:
- أين الإرهاب يا أستاذ ؟! وما
هو وجه اعتراضك على السؤال تحديدا ً ؟
- أعترض على صياغة العبارة. لقد أقحم
ممثل المدعي العام سورة (الفلق) في ثنايا سؤاله وبهذا لن يملك الشاهد إلا أن يقول :
نعم أنا أؤمن بالسحر والعين.
هكذا جاء ردي. ولكن المحكمة رفضت اعتراضي وأمرت الطبيب بالإجابة على
السؤال ولم تخرج إجابته عن المتوقع إذ رد بالإيجاب. لينتقل الأستاذ (جاد الله)
للخطوة التالية مجهزا ً على البروفيسور متسائلا ً:
- هل يجعل منك إيمانك بالعين
والسحر رجلا ً مجنونا ً؟
- أعترض ..!
وضاعت صرختي أدراج الرياح إذ لم تقبل المحكمة ذلك الاعتراض ليرد البروفيسور بصوت ٍ واهن :
- لا ..!
- هل تؤمن
بالرؤيا الصالحة ؟
- هل يجعل إيمانك بها منك شخصا ً مجنونا ً؟
- لا ..!
دهمتني حينها رغبة ٌ عارمة في أن أفتح القفص وأطلق موكلي من محبسه ليجهز على هذا المحامي القميء بذات
السكين الضخمة "المعروضات" والتي سبق أن بقر بها بطن المرحوم. وانتقل
الأستاذ (جاد الله) إلى الخطوة الثالثة ليلف حبل المشنقة حول عنق موكلي المسكين بإحكام
مستخدما ً هذا السؤال:
- بروفيسور (محمد كمال)، إذا عرفت أن شخصا ً ما قد سحرك فهل
ستقتله ؟
- أعترض ..!
وضاعت صرختي كسابقتها وأمرت المحكمة الطبيب بالإجابة على
السؤال.
- لا ... لن اقتله..!
رد العجوز ووجهه في شحوب الموتى. فخاطبني القميء وهو
يبتسم ساخرا ً:
- تفضل واستجوب الشاهد، إنه لك يا أستاذ ..!
ووقفت وجميع الأعين تحدجني باشفاق. والدة
المتهم وحدها كانت دموعها تجري على خديها في تتابع ونظراتها مركزة على وجهي المتعرق. كان
جميع النظارة بما فيهم زملائي المحامين بل والقاضي نفسه يحدجونني بنظرات الرثاء إذ ليس هنالك ما يمكن فعله بعد تلك الضربات القاضية التي وجهها (جاد الله)
الشرير لقضية دفاعي. ورغم ذلك لاح لي بصيص من أمل في نهاية الطريق ولم يتزحزح إيماني بجنون موكلي البائس. جذبت نفسا ً عميقا ً وأنا أخاطب الطبيب بقولي:
- بروفيسور (محمد كمال الدين)، قلت أنك تؤمن بالعين والسحر
وأنهما يمكن أن تصيبا الإنسان بالضرر. هل يمكن أن تشرح للمحكمة كيفية حدوث ذلك
الضرر بواسطة العين ؟
- الله أعلم.
رد الرجل العجوز مذهول العينين إذ أن صدمات (جاد الله) الشرير لازالت تؤثر على تفكيره. وكانت تلك الإجابة أروع مما توقعت كثيرا ً فواصلت
متسائلا ً:
- أقصد أنني لا أعلم ولا غيري يعلم ..!
رد الرجل في
ثقة وعناد. بدا وكأنه يسترد عافيته التي سرقها منه ممثل المدعي العام سليط اللسان. فتنفست
الصعداء، عرفت حينها أن الرجل قد تهيأ تماما ً لسؤالي التالي:
- بروفيسور (محمد
كمال الدين)، قلت أنك لن تقتل الشخص الذي يسحرك. فماذا ستفعل به وقد تعدى عليك وسبب لك ضررا
ً؟
- لا أعلم. فلم أوضع من قبل في هذا الموقف.
- وإذا وضعت َ ..!
همست بالسؤال وأنا ابتسم في وجه الرجل مطمئنا ً. وصرخ ممثل المدعي العام:
- أعترض..!
ولكن القاضي الذي يبدو أنه يستمتع بهذا الحوار لم يلتفت لاعتراضه وأمر الشاهد
بالرد. فرد البروفيسور العجوز في مسكنة بعد أن تاهت عيناه في الفراغ طويلا ً بقوله:
- سأشكوه
إلى الله ..!
قالها لتضج القاعة بالضحك. القاضي نفسه أشاح بوجهه بعيدا ً ليخفي
ابتسامته. أحسست حينها أن الخيوط كلها قد باتت في يدي فجذبت نفسا ً عميقا ً وأنا
أصلح من وضع ربطة عنقي دون أن تكون بحاجة لذلك وأوجه سؤالي الرئيسي قائلا ً:
- برفيسور
(محمد كمال الدين)، هل ستشكو من يسرق مالك إلى الله ؟
- لا ... سأشكوه إلى هذا
القاضي فيقيم عليه حدود الله ..!
قالها العجوز الطيب وهو يشير إلى القاضي خلف المنصة
بإصبعه في براءة طفل ٍ غرير. ابتسمت وأنا ألاحقه بالسؤال قائلا ً:
- ولماذا لا تشكو من
يسحرك إلى القاضي؟!
- أعترض ..!
لتضيع صرخته أيضا ً في الفراغ ويأمر
القاضي الشاهد بالإجابة على السؤال. فيرد بقوله:
- حسب علمي لا يوجد قانون يعاقب على
مثل هذه الأشياء.
وكدت أن أنسى نفسي واصفق طربا ً. فهذه هي الإجابة التي كنت احتاجها
وهي عين الحقيقة إذ لا يوجد قانون يعاقب من يسحر الناس أو يصيبهم بالعين لا في
كتاب الله ولا كتب الحكومة. فابتسمت في مكر وأنا ألاحق الرجل قائلا ً:
- بروفيسور
(محمد كمال الدين)، ماذا تستنتج من عدم وجود قانون يعاقب على مثل هذه الأفعال رغم ما
يشاع عن حقيقيتها وعلميتها وقدرتها على تسبيب الضرر؟
- أعترض ... فالإجابة ستكون بينة رأي وهي مرفوضة بنص المادة
التاسعة من قانون الإثبات..!
صرخ ممثل المدعي العام بالعبارة أعلاه وهو يضرب المنصة
بقبضته ويقفز واقفا ً على رجليه متخذا ً وضع الهجوم، كان الرجل يفقد أعصابه تماما ً، بدا
لي حينها كحيوان ٍ ضار ٍ سينقض حتما ً على فريسته التي هي أنا. واستجابت المحكمة للإعتراض.
وأمرت الشاهد بتجاهل السؤال ولكنني لم أكن انتظر الإجابة بل كان السؤال نفسه هو
الإجابة.
وجلست وأنا أحس ببعض الطمأنينة بعد
أن لاحظت ذلك الأنزعاج الذي لاح في وجه القاضي، لا شك أن سؤالي الأخير قد أصابه بالصداع،
مما حدا بي إلى أن أشير إلى موكلي داخل القفص مطمئنا ً.

الخرطوم يوليو 2013م