- (عبد الرافع) مشى (الدمازين) يا أستاذ ..!
بهذه
العبارة استقبلني موكلي عند بوابة المحكمة. عقارب الساعة تعدو في نشاط ٍ مثابر نحو موعد
سماع القضية في العاشرة صباحا ً. وحيث أن هذا اليوم هو موعد مقابلتي للجنة التوظيف بالجامعة
منتصف النهار، لذا استقبلت الخبر بارتياح ٍ عميق. فطالما أن خصمنا غائب ٌ فلن تستغرق
الجلسة سوى بضع دقائق تشطب فيها دعوى (عبد الرافع) بسبب الغياب مما يوفر علي َّ
الكثير من الوقت الذي احتاجه حتى حلول موعد مقابلتي للَّجنة التي تنظر في طلب توظيفي محاضرا ً بكلية القانون لتدريس مادة القانون الدولي.
ابتسمت في وجه الرجل
وأنا أخاطبه مبشـِّرا ً :
- الحمد لله ... مبروك .. سنكسب القضية، سنشطبها ..!
- (الدمازين) يا
أستاذ ... (الدمازين) ..!
هتف الرجل بصوت ٍ بدا لأذني َّ غريبا ً، مزيج من الرهبة واليأس
والتحذير مما دعاني لأقلب الاسم في ذهني وعيناي تطالعان وجه الرجل الممتقع في فضول.
(الدمازين)، (الدمازين)، (الدمازين). ولم أجد في سيرة تلك المدينة الجميلة ما يلفت
الانتباه سوى سبب ٍ وحيد ٍ لم يكن يستدعي كل هذا الخوف من موكلي فقلت :
- هل انضم (عبد
الرافع) إلى المعارضة المسلحة بالنيل الأزرق؟
- معارضة أيه يا أستاذ. دي ما جايبه حقها ..!
اغضبتني
عبارة الرجل كثيرا ً ولكنني لم أشأ أن أقود النقاش في ذاك المنحى فكظمت غيظي لأخاطبه
بلهجة ٍ جافة قائلا ً:
- لا يهم أين ذهب (عبد الرافع). سنشطب الدعوى بسبب الغياب.
قلتها وأنا
أتوجه نحو قاعة المحكمة بخطوات ٍ نشطة بينما موكلي يجر قدميه خلفي شاحب الوجه.
كان
الرجل يرتجف من قمة رأسه حتى أخمص قدميه وهو يقف إلى جانبي والقاضي يتلو قراره
الذي قضى فيه برفض شطب الدعوى، إذ رأى سيادته أن من العدالة أن يمنح (عبد الرافع)
فرصة ً أخرى طالما أن هذا أول غياب له عن الجلسات، وقد سبق أن سدد رسوم قضيته.
خرجت
من القاعة وبي شيء من الغضب. خاطبني موكلي معزيا ً وهو الأجدر بالعزاء:
- ما تزعل من القاضي يا أستاذ. قال كده غصبا ً عنه. (عبد الرافع) مشى (الدمازين).!
- ما تزعل من القاضي يا أستاذ. قال كده غصبا ً عنه. (عبد الرافع) مشى (الدمازين).!
قالها ليضيء
ذهني بالعرفان فجأة ً. ياااه ، (الدمازين) ..! خاطبت موكلي بقولي :
- هل تقصد ... !
ولم يتركني
الرجل أكمل عبارتي بل قاطعني هاتفا ً:
- نعم ... نعم يا أستاذ. (عبد الرافع) مشى (الدمازين)
يبرِّك شيخ عشان يكسب القضية.
قالها لأنفجر ضاحكا ً بغير سرور. كيف يكسب ذاك الشيخ
القضية وهو على بعد آلاف الأميال عن قاعة المحكمة ولا يدري من القانون حرفا ً، بل كيف يعتنق الناس مثل هذه الخرافات ؟!
وأردف موكلي محذرا ً:
- اعمل حسابك يا أستاذ. اتحصـَّن. أكيد (عبد الرافع) كلـَّم
الشيخ عنـَّك ..!
ابتسمت ساخرا ً وتركته متوجها ً نحو باب الخروج وشيء ٌ ما يكتم صدري. كيف وصل شعبي إلى هذا الحد من البؤس والتخلف؟!
كانت جموع المتقاضين تجلس على المقاعد المخصصة لهم في الردهة، كما جرت العادة، منتظرين موعد سماع قضاياهم. أخذت اتفحصهم واحدا ً واحدا ً وكأني أراهم لأول مرة. بدوا أمامي متضعضعين زائغي النظرات بينما شفاههم تتحرك في عجلة ٍ لتردد بعض الأدعية والأوراد. وفي أقصى الردهة انزوت ثلاث نسوة وقد انكبـَّت كل منهن على كتاب ٍ صغير ترتل بعضا ً مما جاء فيه بصوت مهموس.
كانت جموع المتقاضين تجلس على المقاعد المخصصة لهم في الردهة، كما جرت العادة، منتظرين موعد سماع قضاياهم. أخذت اتفحصهم واحدا ً واحدا ً وكأني أراهم لأول مرة. بدوا أمامي متضعضعين زائغي النظرات بينما شفاههم تتحرك في عجلة ٍ لتردد بعض الأدعية والأوراد. وفي أقصى الردهة انزوت ثلاث نسوة وقد انكبـَّت كل منهن على كتاب ٍ صغير ترتل بعضا ً مما جاء فيه بصوت مهموس.
"الوِرد الرقراق لطالبة الحكم بالطلاق". كان هذا
عنوان كتاب المرأة الأربعينية فائقة الجمال التي تجلس في احتشام ٍ مفتعل متوسطة رفيقتيها وقد ضاق
بها المقعد على اتساعه. ابتسمت ُ وأنا أنقل بصري إلى ما تقرأه الفتاة العشرينية
الجالسة إلى يسارها، إنه كتاب: "السيف الماضي لضمان إنحياز القاضي". كانت
الفتاة منكبة على الكتاب في حماس تجلجل بما جاء فيه من أدعية ٍ وترفع رأسها مرة ً تلو المرة متجولة ً بعينيها الجميلتين في ما حولها دون تركيز. بينما كانت الفتاة الثالثة تردد
بعض الأدعية من كتاب: "الدعاء الشامي لتشتيت انتباه المحامي". انفجرت
ضاحكا ً لابد أن هذه الفتاة قد خضعت لاستجواب قاس ٍ من محامي خصمها في جلسة ٍسابقة،
وهي تأمل في تشتيت انتباهه اليوم.
وأنا منغمس ٌ في كل هذا، إذا بجرس الهاتف يرن. كان
المتحدث هو السيد مدير الجامعة. جاءني صوته هادئا ً باردا ً ومقيتا ً يقول :
- معليش
يا دكتور. لقد ألغوا الوظيفة ..!
- والسبب ..!
هتفت متسائلا ً والأرض تميد تحت أقدامي. ليأتيني
صوت الرجل يرد في ضجر:
- لم يفصحوا عن السبب.
قالها وهو ينهي الاتصال وكأنه يهرب مني.
خرجت
من مبنى المحكمة حزينا ً كاسف البال. لقد بنيت على هذه الوظيفة الكثير من الآمال
والأحلام والتطلعات. فإلى جانب مركزها الاجتماعي، كانت ستوفر لي دخلا
ً إضافيا ً إلى جانب ما يدره علي َّ عملي في المحاماة. لكن يبدو أن الحظ بدأ
يخونني. نعم. طوال الاسبوع السابق وأنا أقع في المتاعب. قبل ثلاثة أيام صدمت عمود النور أمام المكتب فاضطررت لسداد قيمته لشركة الكهرباء ودفع مبلغ آخر لا يقل
عنه لإصلاح العربة. قبلها اخضعتني لجنة شكاوى المحامين لتحقيق لا ناقة لي فيه ولا
جمل. بعدها حوَّل أكبر عملائي الدائمين أعماله من مكتبي إلى مكتب آخر دون سبب ٍ
واضح. نعم، نعم لقد كان أسبوعي السابق تعيسا ً بكل ما تحمل الكلمة من معان ٍ.
احسست فجأة ً بالمرض وأنا استدعي متاعبي السابقة طوال الاسبوع المنصرم، كانت عظيمة ً إلى درجة تدعو للرثاء. قررت أن أعود إلى المنزل أنعم ببعض الراحة وانفرد بنفسي فأدرت عجلة القيادة في الاتجاه الآخر.
احسست فجأة ً بالمرض وأنا استدعي متاعبي السابقة طوال الاسبوع المنصرم، كانت عظيمة ً إلى درجة تدعو للرثاء. قررت أن أعود إلى المنزل أنعم ببعض الراحة وانفرد بنفسي فأدرت عجلة القيادة في الاتجاه الآخر.
أخذت زوجتي تتأمل هيئتي البائسة في
اشفاق ثم خاطبتني متسائلة :
- خير. إيه الـ حصل ؟!
- ألغوا الوظيفة.!
ابتسمت مواسية ً وهي تخاطبني بقولها :
- خيرها في غيرها. لكن ليه ؟!
- لا أعرف. لم يفصحوا عن السبب.
أجبت وأنا
أزفر في ضيق. لترد مقترحة :
- ربما كان نشاطك السياسي هو السبب ..!
وجدت نفسي انفجر في وجهها صائحا ً:
- نشاط سياسي أيه يا بنت الناس ؟! (عبد الرافع) مشى (الدمازين) ..!
أم درمان - نوفمبر 2013م
احي الموهبه
ردحذف* دائماً قصصك جميلة و مختلفة و ذات معنى قوي .. أحسنت
ردحذفهههههههههههه انت برصو اقتنعت انو عبدالرافع مشي الدمازين
ردحذف