التسميات

الجمعة، 14 نوفمبر 2014

(سلمـى) ، حوريـة البحـر الزرقـاء

   يريد أن يأتي بتصرف ٍ غريب، أن يسلك سلوكا ً غير متوقع، أن يصرخ أو يقهقه وسط الشارع دون سبب، أن يبكي لمشاعر غامضة ً لا يجد لها تعليلا ً. يريد أن يثرثر بلا طائل، أن يحكي لأحد ٍ ما عن كل شيء وعن اللاشيء دون أن يشعره المقابل بسخافة ما يقول، أن يحكي بعض الطرف البذيئة لأحدهم دون أن يتهم بقلة الحياء أو تهتز شخصيته في عين محدثه، أن يعاكس فتاة ما، أن يلقي برأسه على كتفها ويبكي أو ينام، دون أن يحس أنه قد أصبح مثارا ً للسخرية أو الاشفاق، أن يتخطى إشارة المرور دون أن يفكر في احتمال أن يراه البوليس فيوبخه. عشرات الأشياء كم فكر الرجل في فعلها ولكن هذا النظام الصارم يحاصره من كل جانب، وكل تلك الأقنعة الكثيفة التي يحافظ بها على شخصيته المفترضة وتمنحه أعلى قدر من الاحترام والمهابة تمنعه من ذلك، هذه القوة المفتعلة وردود الفعل الباردة والخطوات المحسوبة بمنتهى الدقة لتتوافق وتلك الحياة، إنها تهد روحه، تحطم أعصابه وتكتم أنفاسه ولكن كيف السبيل للخلاص منها، كيف السبيل للإنعتاق من ربقتها؟. وظل الرجل حائرا ً يمني نفسه بحدوث معجزة ما تهد كل ما عرفه من حياة وتستبدلها بأخرى.

وكان أن التقى بها في "الفيس بوك" بعد أن ارسلت إليه طلب صداقة تقبله شاكرا ً. لم يعرف عنها سوى اسمها الرمزي (حورية البحر الزرقاء) والصورة الرمزية لشاطيء بحر مهجور. طلبته للدردشة فأدمن "الفيس" بعد تلك المحادثة التي لم تتعد َ بضعة أسطر. ورغم أنه كان يسمي نفسه باسمه الحقيقي ويضع صورته الحقيقية إلا أنه اندفع بعدها يثرثر في ثقة دون تهيب ٍ أو وجل ٍ وكأنه يتحدى خوفه السابق أو يثأر لتلك السنوات من عمره التي التهمها الصمت البارد. بادلته بوحا ً ببوح وحنانا ً بحنان وثقة ً بثقة ليمزق كل الاقنعة ويقف أمامها عاريا ً بكل إنسانيته وينقل إليها كل ما يدور في دواخله، التمس من جرأتها شجاعة ومن وضوحها وبراءتها قوة ً وثباتا. ظل يحكي ويحكي وكأنه يغترف من نبع لا ينضب، وفي كل مرة كان يحس بأنه أضحى خفيفا ً، شفيفا ً وكأنما يوشك على الطيران، بدا وكأنه يتخلص بعد كل محادثة ٍ من أحمال ٍثقيلة تربطه بالأرض. كانت عباراتها صغيرة وبسيطة تشع بالصدق فتحمله إلى عوالم أخرى لم يختبرها من قبل. نادته يوما بحبيبي ، كان للكلمة وقعا ً سحريا ً في قلبه هد َّ كيانه هدا ً فناداها بحبيبتي وقلبه يرتعش. ولم ينم ليلتها. تذكر انه لم يستعمل هذه الكلمة قط، تزوج ببنت عمه الجميلة قبل عامين. تم كل شيء ببساطة ودقة، لا نظرات مسروقة تتخللها الرعشات، لا مواعيد خائبة تعقبها الدموع، لا استعطاف أو تذلل. تمت الخطبة والموافقة والزواج كما يقضي النظام ، أمر ٌ تولاه كبار العائلة، حدث ٌ لم تكن له فيه من صولة ٍ أو جولة. حدث ٌ عادي ٌ كحالات الميلاد اليومية أو الوفاة. لم يحس يومها أن زواجه مكسبا ً خاصا ً به يستوجب الاحتفاء ، ولم يعده بعد ذلك انتصارا ً تعقبه أكاليل القار. لقد تم كل شيء كما هو مفترض، كشروق الشمس وغروبها كل يوم.
   
   حبيبتي ، كان يرددها كتعويذة مفتتحا ً بها كل محادثة وكانت تكتبها له فيحس للكلمات وقعا ً مختلفا ً ويتزلزل ثباته. عجبا ً، كيف تستطيع هذه الحروف التي يرسلها غريب ٌ مبهم ُ الملامح على شاشة ٍ باردة ٍ أن تجعلنا عجينة ً طائعة ً بين يديه، تشكلنا كيفما تشاء ، تسعدنا، تحزننا، تجرحنا، تفرحنا، فنتألم في سعادة أو نسعد ونحن في منتهى الألم ويكاد أن يتوقف منا النبض؟!!. 
   
   وتمر الأيام والشهور ليحزم الرجل أمره ويقرر أن يلتقي بها. لقد أصبحت حياته التي لا حياة له غيرها. وافقت بعد أيام من الإلحاح والمطاردة المثابرة. اختارت مطعما ً شعبيا  صغيرا ً وسط المدينة مكانا ً للقاء. أسعده ذلك كثيرا ً وأحب تلك البساطة التي لم يعتدها ممن حوله. ذهب قبل الموعد بقليل، جلس ينتظرها واجف القلب، كيف يكون شكلها ، مظهرها،  لون عينيها وطريقة تبسمها، هل هي بيضاء أم سمراء، طويلة أم قصيرة، وهل ستتعرف عليه بمجرد أن تراه؟ ثم فاجأته الفكرة بغتة ً، هل ما يحدث الآن حقيقيا ً؟ ربما هي خدعة دبرها له بعض الأشقياء، ربما اتصلوا بزوجته وستظهر فجأة بصحبة أبيها وأبيه وتهد المكان على رأسه وتؤذي حوريته الزرقاء. 
   
   وما لبث إلا قليلا ً حتى كان الرجل يرتجف من قمة رأسه حتى أخمص قدميه وعيناه شاخصتان نحو المرأة التي ولجت من الباب الأمامي متجهة نحوه في ثبات، يا لصواعق السماء، لابد أنها عرفت امره بطريقة ما، فكر الرجل، لا مكان للتراجع،  إنه الوقت المناسب ليتخذ قرارا ً شجاعا ً ويعيد ترتيب حياته كما يشتهي، قرارٌ يخصه وحده ويتحمل نتائجه. لن يعود لحياته الجافة الباردة المصطنعة تلك، لن يضحي بحوريته الزرقاء من أجل حياة لا طعم لها ولا لون أو رائحة. سيقاتل الجميع من أجلها، من أجل حياته الجديدة وحوريته الجميلة، سيقاتل زوجته، عمه ، أباه، عائلته والحكومة. التقط أنفاسه بصعوبة وهو يستقبل زوجته بوجه عابس مهيئا ً نفسه للنزال، تقدمت (سلمى) نحو المائدة بخطوات ٍ مياسة، كانت جميلة، أجمل من أي وقت ٍ مضى ، متوردة الخدين وعيناها تلمعان ببريق صاعق، ابتسمت في رقة ٍ وهي تمد يدها تحتضن كفه في حب وتهمس : حبيبي، بإمكانك أن تضع رأسك على كتفي قدر ما تشاء ، أن تبكي وتنوح أو تردد بعض الكلمات البذيئة إن شئت ، إنها أنا ، أنا هي حورية البحر الزرقاء.
                           الخرطوم – نوفمبر 2014م  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق